"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني | ترجمة

 

المصدر: مجلّة Radical Teacher.

ترجمة: علاء سلامة - فٌُسْحَة.

 

لا مهرب من أن يكون معظم الأدب الفلسطينيّ متعلّقًا بخسارة البيوت والأرض، وتشرّد العائلات، فالنكبة، نفي إسرائيل الجماعيّ لأكثر من 750 ألف فلسطينيّ عام 1948 من قراهم وبلداتهم الّتي تقع في ما بات يُسَمّى إسرائيل، كانت البداية. أثر النكبة الكارثيّ مستمرّ حتّى يومنا هذا، والكتابة الّتي تستجيب لهذا الشرط تنتج أدب حِداد واحتجاج ومقاومة، أدبًا مكتوبًا قبل كلّ شيء؛ من أجل الحفاظ على هويّة الشعب، ومن أجل إيصال صوته إلى العالم.

بين هذه السرديّات، قد تكون رواية غسّان كنفاني القصيرة «رجال في الشمس» الأكثر قسوة حتّى يومنا هذا. عندما أعلّم في مساق «الأدب الفلسطينيّ والإسرائيليّ» لطلّاب البكالوريوس في الجامعة، أجمع بين «رجال في الشمس» ورواية كنفاني الأيقونيّة الثانية «عائد إلى حيفا»، الأكثر حدّيّة ومباشرة في طابعها النضاليّ. ثمّة أثر قويّ لقراءة كلّ واحدة من الروايتين، وكلٌّ منهما يساعد الطلّاب الأمريكيّين على رؤية الخسارة المرعبة الّتي سبّبتها النكبة، وفي الآن نفسه الكرامة في المقاومة.

قُتِلَ غسّان كنفاني في انفجار قنبلة في سيّارته في بيروت عام 1972، ويمكن افتراض أنّ «الموساد» هو الّذي زرعها. كان غسّان صحافيًّا ماركسيًّا وناشطًا، قُتِلَ بسبب ارتباطه المفترض من خلف الكواليس بالمذبحة الّتي حصلت في مطار إسرائيل الرئيسيّ. الروايتان، مع ذلك، لا تتعلّقان بالعنف المسلّح، مع أنّ الحرب بطبيعة الحال تشكّل خلفيّاتهما بشكل لا يمكن تجنّبه. «عائد إلى حيفا» تتعلّق بزوجين فلسطينيّين يعودان - بعد عشرين عامًا - إلى بيتهما الّذي هجراه، حيث يجدان، بشكل مفاجئ، ابنهما الّذي ضاع منهما قبل كلّ تلك السنين يرتدي الزيّ العسكريّ الإسرائيليّ. يعود الخيار له: أن يبقى مع أمّه بالتبنّي، أمّه اليهوديّة الّتي نجت من المحرقة، أو أن يستعيد هويّته الفلسطينيّة. «رجال في الشمس» تحكي قصّة أربعة رجال فلسطينيّين في رحلة هجرة غير شرعيّة إلى الكويت.

على الرغم من أنّ بقيّة هذه المقالة تتعلّق بـ «رجال في الشمس»، فإنّ «عائد إلى حيفا» بالأهمّيّة ذاتها، فكلٌّ من الروايتين لصيقة بالثانية.

نموذج «رجال في الشمس» مألوف: عدد من المهاجرين، في هذه الحالة ثلاثة رجال فلسطينيّين، يحاولون الوصول إلى الكويت بشكل غير قانونيّ. إنّهم الآن في العراق، حيث يصل كلٌّ منهم إلى مكتب رجل بغيض (الرجل السمين)، يعرض عليهم المرور بشكل غير شرعيّ مقابل مبلغ غير معقول. بدلًا من ذلك، يختار كلّ منهم عرضًا مرتجلًا يقدّمه لهم فلسطينيّ من أبناء جلدتهم، يقود شاحنة نقل مياه فارغة.

لا يفسد القصّة أن أقول إنّ نهاية هؤلاء الرجال ستكون سيّئة. هذه القصّة مألوفة، مؤلمة بشكل غير محتمل، لكنّها تحصل دائمًا. مثل كتّاب آخرين، يفصّل كنفاني شخصيّاته، والتواريخ والصدمات الّتي يحملها كلٌّ منهم. نموذج القصّة عالميّ، لكنّ التفاصيل فلسطينيّة، وكلّها تعود بأصلها إلى النكبة الّتي بالكاد تُذْكَر في الرواية. إنّها قصّة قوًى عالميّة، لكنّها كذلك قصّة مأساة فلسطينيّة اسمها النكبة. أفرادًا، يستحوذ كلٌّ من هؤلاء الرجال على تعاطفنا، أمّا بصفتهم جزءًا من جماعة، فإنّهم يكشفون الستار عن سياستنا.

في القصّة الشخصيّات التالية: أبو قيس؛ رجل في منتصف العمل، ومروان؛ مراهق يقع على عاتقه عبء رعاية عائلته منذ توقّفت تحويلات شقيقه الأكبر الماليّة، وأسعد؛ شابّ مخضرم، يعرف جيّدًا الكذبات والمصاعب الّتي تنتظرهم في رحلتهم الخطيرة. سائق الشاحنة هو أبو الخيزران، فدائيّ فلسطينيّ جُرِحَ في المعركة. كلّ واحد من الشخصيّات الأربعة مجبول من تجاربه وتطلّعاته الخاصّة الّتي تظهر تباعًا عبر أحاديثهم، وعبر استرجاعات الماضي الطويلة والمعمّقة. هذا الهيكل المتداخل يسمح لتعاطفنا مع الشخصيّات، ومع فهمنا لهم أن يتطوّر تدريجيًّا، ويسحبنا بتسارع إلى قلب الكارثة الّتي تتكشّف أمامنا.

القصّة مكتوبة بشكل جميل، مع انتباه متفانٍ للمناظر الطبيعيّة المحيطة بالشخصيّات، والعوالم الداخليّة لها. توتّر السرد هو بالطبع حاجة الرجال إلى قطع الحدود. يناور أبو الخيزران ببراعة من أجل العبور، ويطلب من الرجال دخول الخزّان لوقت قصير من أجل المرور بحاجز، وسرعان ما يغادرون الخزّان بعد ذلك. لكنّ الأمور تتّجه نحو الأسوأ على الحاجز الثاني، حين يؤخّر جنود من حرس الحدود أبا الخيزران بنكاتهم حول علاقته براقصة، وتحديدًا حول القدرة الجنسيّة الّتي يفتقدها: كان جرح أبي الخيزران في المعركة بين رجليه.

مع أنّ هذا الجرح فعليّ، فإنّ كلّ واحد من الرجال الأربعة يصارع ضعفًا ما. تقدّم الرواية مفهومًا عن الرجولة يقرنها بالقدرة على الفعل، ويجعلها مساوية للاكتفاء الذاتيّ، والكرامة واحترام الذات. في كلّ حالة، كان انقطاع كلّ من الرجال عن بؤرة حياته الاجتماعيّة التقليديّة، وعدم قدرته على إعالة نفسه، تعني تلفًا في شعوره بذاته ونحوها، وحرمانًا حقيقيًّا هو الّذي دفعهم بالأساس نحو القيام بهذه الرحلة الخطيرة. على اختلافاتهم في السنّ وفي التجارب الحياتيّة، فإنّ هؤلاء الرجال متوحّدون في هذا التلف، وفي الموت. في النهاية، يصبحون محض جثث على أبي الخيزران أن يتخلّص منها.

مع أنّ هذا السرد قويّ، وشاعريّ أيضًا، فإنّ بيت القصيد في «رجال في الشمس» هو نهايتها، عندما يكتشف أبو الخيزران جثث ركّابه. لا يعفينا كنفاني من الشعور بألم أبي الخيزران. نرى الرجل الطيّب محطّمًا لموت ركّابه، وفي الآن ذاته، مدركًا أنّ عليه أن يتخلّص من جثثهم. في نهاية المطاف، ليست جنازة، بل مكبّ نفايات ذاك الّذي يستقبل الرجال الثلاثة الّذين عرفناهم وتعلّقنا بهم. هنا، كذلك، يكون وصف كنفاني قاسيًا لا يرحم، يدخل بنا حتّى في أدقّ التفاصيل. وفوق ذلك، نرى أبا الخيزران يقلّب جثث الرجال الثلاثة، قبل أن يغادر، آخذًا منهم كلّ ما يملكونه، بما في ذلك ساعة مروان الغالية عليه.

تنتهي «رجال في الشمس» بأبي الخيزران، وهو يشعر برأسه يكاد ينفجر، يصرخ عاليًا نحو عتمة الليل:

"لماذا لم يدقّوا جدران الخزّان؟

لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا؟

وفجأة بدأت الصحراء كلّها تردّد الصدى:

لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزّان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟".

مثل كثير من قصص اللاجئين، تتحدّث «رجال في الشمس» إلينا حتّى لو لم نعرف الكثير عن الفلسطينيّين. القصّة، المكتوبة بكلّ ما كُتِبَ فيها من جمال وإثارة، لا تختلف كثيرًا عن قصص من سوريا أو الكونغو أو غواتيمالا أو السلفادور، حتّى لو اختلفت التفاصيل والظروف. السؤال المحوريّ الأخير «لماذا؟» لا يتعلّق بلماذا لم يقرع الرجال جدار الخزّان طالبين النجدة، لكن بما دفعهم نحو رحلتهم الخطيرة في المقام الأوّل. في هذا السؤال، «لماذا؟» يختلط الفرديّ بالجمعيّ: قصّة الفلسطينيّين، والقصّة الأوسع لكلّ الشعوب المهجّرة في العالم في بحثها المحموم عن العمل والأمان.

 

* تُنْشَر هذه المقالة ضمن ملفّ خاصّ لمناسبة مرور خمسين عامًا على اغتيال الشهيد غسّان كنفاني على يد الاستعمار الإسرائيليّ، تُنْشَر موادّه على مدار شهر تّموز (يوليو) 2022.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.